كيف يمكن لجسدٍ أن يحمل مدينةً كاملة؟
- مريم الخطيب

- 4 days ago
- 3 min read
بقلم: مريم الخطيب

في غزة، لا تُكتب الذاكرة بالحبر وحده، بل بالدم، بالدمع، وبالندوب التي تملأ أجساد النساء. جسدي، مثل أجساد آلاف النساء هنا، صار دفترًا مفتوحًا يدوّن الاحتلال فصوله على أرحامنا، على أصواتنا المكبوتة حين نصرخ في الليل ولا يتجاوز صراخنا جدارًا مهدّمًا. وحين تُمحى البيوت من ذاكرة الحجر، تصبح الأرحام هي الأرشيف الحي؛ تحفظ أسماء الشهداء، تختزن الخوف، وتروي حكايات النجاة والخذلان.
أتساءل أحيانًا: لماذا كُتب على جسد المرأة أن يكون أول وأقدم أرشيف في التاريخ؟
منذ قرون، حملت النساء ألم الولادة الأول، وذاكرة العنف المتوارث من القبيلة إلى الاستعمار، ومن الاستعمار إلى الاحتلال. في كل الحروب، القديمة والحديثة، كان الجسد الأنثوي هو الميدان الصامت: يُغتصب في الخفاء، يُهجَّر، يُنتزع منه الأبناء، ويُترك ليحمل العار الذي لم يصنعه. لكنه ظل أيضًا الذاكرة التي لا تُمحى , ذاكرة الحكايات والأغاني الشعبية ودموع الفقد وابتسامات الحياة التي تنبت رغم الخراب. جسد المرأة هنا ليس فقط شاهداً، بل خزان الذاكرة الجمعية للمكان والتاريخ والمقاومة.
كيف يصبح الجسد دفترًا للتاريخ؟
أعرف أمًّا أنجبت في خيمة بلا دواء ولا كهرباء. تقول إن صرخة ابنتها اختلطت بصوت الطائرات، فصار ميلادها جزءًا من أرشيف الحرب. وأعرف فتاة نزحت مع عائلتها، لكنها حملت كتبها المدرسية في حقيبة صغيرة كأنها تحفظ حلمها داخل أوراق لا تعرف الحدود. وأعرف امرأة مسنّة لا تزال تحتفظ بمفتاح بيتها المهدّم في كيس قماشٍ معلّق على صدرها، كأنها تحمل تاريخ المدينة كله على كتفيها.
هذه ليست حكايات فردية، بل حلقات من سلسلة طويلة تمثل ذاكرة النساء في غزة , ذاكرة تختزن في تفاصيل الجسد: جروح الولادة بلا رعاية، الدورة الشهرية في خيام بلا ماء، ندوب الجوع، وآثار الصدمات التي لا تُرى. تشير التقارير إلى أن آلاف النساء الحوامل في غزة فقدن إمكانية الوصول إلى الرعاية الطبية، وأن واحدة من كل عشر مهددة بالموت أثناء الولادة.
أما الإشعاعات الناتجة عن القصف، فتترك أثرها على المدى البعيد في أرحام الناجيات، مسببة تشوهات للأجنة وإجهاضات متكررة. الاحتلال لا يستهدف الحاضر فقط، بل ذاكرة المستقبل أيضًا، عبر خلق أجيال مشوّهة قبل أن تولد.هذه ليست أرقامًا باردة، بل حيوات تُكتب بالنزيف، وتتسرب من بين أصابع العالم.
ماذا يعني أن تكوني امرأة في غزة اليوم؟
يعني أن تعيشي في فجوة زمنية؛ خارج غزة تُناقش حقوق المرأة في المؤتمرات وتُختزل في شعارات التمكين والمساواة، بينما هنا تُسلب النساء أبسط الحقوق: الحق في النوم بلا خوف، في ولادة آمنة، في بقاء الجنين حيًّا. أجسادنا تبدو خارج زمن العالم، عالقة في زمن الاحتلال والمجازر، بينما يُقاس “التقدم” عالميًا بالمؤشرات الاقتصادية والسياسية.
لكن الأرحام لا تنتظر المؤشرات. إنها تصرخ. يولدن في مدارس مكتظة بلا ماء، يفقدن أطفالهن لأن سيارات الإسعاف لم تصل، وينزفن حتى الموت لغياب دواء بسيط. كل رحم فقد جنينًا، كل جسد لم يجد سريرًا في مستشفى، هو صفحة في أرشيف الحرب. الأرحام التي وُجدت لتمنح الحياة، باتت تحارب الموت في كل ولادة.
هل يمكن لجسد واحد أن يقاوم جيشين؟
نساء غزة يواجهن عنفين متوازيين: عنف الاحتلال الذي يقصف ويهجّر ويحاصر، وعنف المجتمع الذي يفرض الصمت والأدوار الثقيلة باسم “الصمود”. وبينما تتحمل النساء العبء الأكبر من النجاة اليومية , تأمين الماء والطعام، رعاية الكبار، محاولة خلق حياة طبيعية وسط الركام , يبقى حضورهن في القرار هامشيًا، وأصواتهن ثانوية رغم أنهن حافظات الحياة والذاكرة.
حتى المدينة نفسها تعيش في أجساد النساء. كل امرأة نزحت تحمل في جسدها خريطة شارع أو زقاق، كل أمّ فقدت بيتها تحفظ رائحته في صوتها، كل جدة فقدت حفيدًا تحفظ اسمه في أغنية كي لا يُنسى. حين تُمحى المدينة من الخارطة، يبقى جسد المرأة هو الخارطة الأخيرة، الأرشيف الذي لا يمكن قصفه.
قالت لي صديقة إنها حين فقدت بيتها جلست بين الركام تجمع شظايا الزجاج المكسور بيديها. لم تكن تبحث عن شيء ثمين، بل عن أثر يثبت أن هذا المكان كان بيتها. قالت: “بيتي صار في جسدي، في يدي المجرّحة. كل شظية دخلت جلدي صارت ذكرى.” هذه ليست استعارة , إنها الحقيقة: الأجساد تحفظ الخراب كما تحفظ الحلم.
لماذا يُختزل صوت المرأة في غزة دائمًا إلى مشهد بكاء أمام الكاميرا؟
لأن التاريخ يُكتب من منظور المنتصر، بينما تُترك النساء في الهامش. لكن الذاكرة لا تكتمل إلا بأصواتهن. حين نصمت، يُكتب التاريخ ناقصًا، وحين نتكلم يتحول الجرح إلى ذاكرة، والذاكرة إلى مقاومة.
لسنا بحاجة إلى خطابات كبرى، يكفي أن نقول إن جسد المرأة في غزة لم يعد جسدًا فرديًا، بل ذاكرة جماعية وشاهد حيّ على الإبادة وأرشيف لا يُقصف. وربما لهذا تحاول كل قوة استعمارية السيطرة على هذا الجسد، لأنها تعرف أنه يحمل الحقيقة أكثر من أي وثيقة. لكن هذه الحقيقة ستظل تولد , مع كل صرخة طفل، مع كل ندبة جديدة، ومع كل أغنية تُغنى في العتمة.
الاعتراف بحق النساء في أن يكنّ أصواتًا مركزية في الذاكرة والعدالة ليس رفاهية نسوية، بل شرط للبقاء. لأن الأرحام التي تحولت إلى أرشيف للحياة والموت، هي التي تقول للعالم: نحن هنا… ولن نمحى.
مريم الخطيب – كاتبة وشاعرة وناشطة فلسطينية من غزة، وطالبة طب أسنان تتابع دراستها في مصر بعد التهجير.
الآراء الواردة في هذا المقال تعكس وجهة نظر الكاتب فقط ولا تمثل آراء نيسابا ميديا.





Comments