رحلة في أحشاء المعاناة
- هديل أحمد عودة

- Oct 9
- 3 min read
بقلم هديل أحمد عودة

في غزة، لا يشبه الخروج أيَّ خروج. هناك، حيث يخرج الناس في بقاعٍ أخرى بحثًا عن نسمة حياة، نخرج نحن لنتنشّق غبار الموت.
هناك، حيث يسعى الآخرون لتغيير مزاجهم، نعود نحن مثقلين بوطأة واقعٍ لا يُحتمل، كمن يحمل جبلًا على ظهره. الخروج هنا ليس نزهة ولا ترفًا، بل رحلة قسرية في دهاليز المعاناة، تبدأ بخطوةٍ خارج الخيمة، ولا تنتهي إلا حين تعود إليها محمّلًا بكل ما رأيت، وبما لم ترد أن تراه.
في أحد الأيام، اضطررتُ إلى زيارة طبيب الأسنان من أجل التقويم. خرجنا بكل ما نملك من طاقة، نسير على قدمين أُعدّتا لقطع أكثر من كيلومترين، نرجو أن نجد سيارة تختصر المسافة، فالمشي بات عبئًا يضاعف الإنهاك.
نسير في طرقٍ رمليةٍ وعرة، لا طريقَ صالحًا فيها. على الجانبين، إما ركام بيوتٍ أو خيامٌ تصرخ: "أنا المعاناة". منظرٌ كئيب، مغبرّ، ممزقٌ ومرقع. أمام كل خيمةٍ طفلٌ صغير، وجهه يعكس الخيمة نفسها، يصرخ بصمت: "أنا المعاناة"، وعيناه تدمعان شوقًا لشيءٍ سُلب منه , طفولته، بيته، ألعابه، كراسته. وفي زاوية الطريق، أفران طينٍ، وفتيات صغيرات يحملن صواني العجين فوق رؤوسهن، وعيونهن تصرخ هي الأخرى: "أنا المعاناة". طفلات يتحملن مسؤولياتٍ أكبر من أعمارهن، وكأن الحرب استعجلت نضوجهن.
حتى الطرق نفسها تصرخ: "أنا المعاناة". كانت يومًا مكسوّة بالخُضرة، فأصبحت صحراءَ قاحلة. أكوام النفايات تملأ أطرافها، تحاول حبس أنفاسك كي لا تشمّ رائحتها، لكنّها تتسلّل إلى رئتيك من مسام جلدك، فتشعر بالغثيان. وبرك المجاري توازيك في الطريق، تحاول أن تتجنب رذاذها وتحافظ على ملابسك من أي قطرةٍ عابرة، لكن وجهك لا ينجو من ملامح القرف: من كل شيء، من كونك جزءًا من هذه المعاناة، من واقع بلادٍ لا يعتادها القلب مهما طال البقاء.
تواصل السير، فتقابل رجالًا سوّدت النار أيديهم، فتقول: "هذه هي المعاناة". ثم ترى بائعًا تحت الشمس الحارقة، وجهه ذاب من اللهيب، فتهمس: "بل هذه هي المعاناة". تنظر إلى بضاعته، كلها معلبات، فتصيح معدتك: "تلك هي المعاناة!"، لكن لا بديل سواها. تشتري علبة لحمٍ تشبه الشمس لونًا وطعمًا، لكنها لم تفقد غلاءها.
تمضي متعبًا كما تمضي المعاناة في عروق المكان. ترى بسطة خضارٍ قليلة، فتضحك من فرط المفارقة. يأسرك بريق الطماطم الحمراء، تسأل البائع عن السعر، فيقول: "ستون شيكلًا"، ثم يشير إلى طماطم تالفة: "وهذه بأربعين". تصمت وتواصل السير، تهمس لنفسك: "المعاناة أن تكون الطماطم حلمًا بعيد المنال."
يمرّ محل ملابس، فتتذكر أنك تركت نصف ثيابك في بيتك حين نزحت قبل عامٍ ونصف، ودُمّر كل ما فيه. أما ما تبقّى فقد أنهكته الشمس ولم يعد يصلح إلا لمسح الغبار. تسأل عن الأسعار فتندهش من رداءة القماش وارتفاع الثمن، وتقول في سرك: "كانت بخمسة شواقل، ولم تعجبنا! الآن بتسعين؟!" لكنك بحاجة إليها، فتسأل إن كان البائع يبيع بالتطبيق، فيجيبك بابتسامةٍ باردة: "كاش فقط." والمال النقدي اليوم يُحتفظ به للضروريات، والعمولة على سحبه تصل إلى خمسين بالمئة! كأنك تتقاسم قوتك مع المصرف.
تتابع السير، تشتهي أشياء كثيرة، لكنك تدرك أن عجزك هو ما يجعلك تشتهيها. ترى مكسرات عين الجمل بعد انقطاعٍ طويل، تسأل عن سعرها، فيجيبك دون أن ينظر إليك: "الوقية بستين شيكلًا." تصمت، وتحسب في ذهنك السعر بالكيلو، فتضحك بمرارة وتقول لرفيقك: "كيلو الجوز بمئتين وأربعين شيكلًا! عمار يا بلد!" فيرد ساخرًا: "فعلاً، بلد المليون حمار."
بعد ساعتين من السير، تصل إلى الطبيب. تنتظر دورك، تتأمل العيادة الجديدة, الرابعة منذ بدأ النزوح. في كل مرة يتغير المكان، ويصغر أكثر، حتى صارت الجدران اليوم من النايلون.
يأتي دورك، يؤدي الطبيب مهمته، ثم يوصيك بألا تأكل شيئًا قاسيًا. تبتسم في سرّك: كل ما يقصده من "القاسي" لا قدرة لك على شرائه أصلًا. ليس في الدنيا ما هو أقسى مما نعيشه، لكنه لا يؤثر على التقويم.
تخرج متعبًا وتسأل رفيقك: "هنمشي كمان مرة؟" فيرد ضاحكًا: "إن شاء الله نلاقي حمار." تندهش: "حمار؟!" فيجيبك بنظرةٍ تختصر كل شيء: "لا بديل." فتسير منتظرًا حمار العودة الذي سيخلّصك من تعب الطريق، ومن مراقبة تفاصيله التي تلسعك كالإبر.
لكن، رغم أننا في بلد المليون حمار، لا نجد أحيانًا حمارًا واحدًا يرحمنا، حتى بعد أن تنازلنا عن كبريائنا، وقولنا: "رحم الله امرأً عرف قدر نفسه."
لكن المسافة أقوى منا، أجبرتنا أن نطلب الحمار، والحمار بدوره لم يُشفق علينا، كأنه مركبة فارهة لا يركبها الجميع.
تتمنى لو لأقدامك إرادةٌ لتختار طريقًا أقصر، أو ظلًا لترتاح تحته. وفجأة تمرّ شاحنة مياه، يتدافع الناس نحوها كمن يركض خلف الأمل الأخير. تتجنب الزحام وتتابع طريقك إلى الخيمة، التي صارت "بيتًا" رغم كل شيء.
تصل عند الثانية والنصف ظهرًا، بعد أن خرجت في التاسعة صباحًا. تقف عند مدخل الخيمة، تلتفت إلى الأفق، حيث تختلط أصوات المعاناة بأنين الرحيل، وتقول لنفسك: "المرة القادمة لن أخرج." فمشهد خيمتك أرحم من مشهد البلاد.
لكن غدًا، ستعود قدماك إلى ذات الطرقات، تحملان الجسد ذاته، والروح ذاتها المثقلة بالركام. ستمشي من جديد، لا لأنك شجاع، بل لأن العيش هنا نزع منك حتى ترف الاختيار. فهنا، الخروج ليس شجاعة… بل استسلام آخر لإرادة البقاء.
هديل أحمد عودة هي كاتبة فلسطينية ناشئة من قطاع غزة. تتمحور كتاباتها حول أدب المقاومة، وتسعى لترجمة واقع وجراح شعبها إلى نصوص ادبية تتحدث بإسم الأرض والإنسان.
الآراء الواردة في هذا المقال تعكس وجهة نظر الكاتب فقط ولا تمثل آراء نيسابا ميديا.





Comments