
من نيبال إلى العالم العربي: هل حان زمن القطيعة بين الأجيال؟
- نيسابا ميديا
- Sep 21
- 4 min read
نيسابا ميديا - (عمان، الأردن)
قبل أيام قليلة، ضجّت وسائل التواصل بأخبار لافته من النيبال: الحكومة قررت حظر تطبيقات التواصل الاجتماعي بحجة حماية المجتمع من “المحتوى الضار”، فيما حاول القضاء أن يماطل في البت بالطعون المقدمة ضد القرار.
مشهد مألوف بالنسبة لشعوب منطقتنا، حيث تتقن السلطات لعبة المنع والوصاية وتجد دائمًا في المحاكم أداة لتبرير القمع أو تأجيل العدالة. غير أن ما حدث في نيبال لم يكن نسخة مكرّرة مما نعرفه.
هناك، لم يقبل الشباب لعبة السلطة ولا مساومة القضاء. خرج جيل كامل — من المراهقين إلى من هم في أواخر الثلاثينات — إلى الشوارع معلنًا رفضًا تامًا لما اعتبره قرارًا أبوياً متسلطًا.
لم يكتفِ بالاحتجاج على “الحظر” بل وجّه ضربة مباشرة إلى جوهر المنظومة التي تقف خلفه: السلطة السياسية، القضاء، والأبوية الاجتماعية معًا.
كان المشهد أقرب إلى مواجهة أجيال، حيث يصرّ الجيل الجديد على القطيعة مع قيم الماضي التي تحاول فرض نفسها. هذه الصورة، التي وُصفت في بعض النقاشات بـ“النموذج النيبالي”، تمثل ما تفتقده منطقتنا منذ أكثر من عقد من الزمن. فالاحتجاج موجود، والغضب حاضر، والدماء سالت في بغداد وبيروت وتونس والخرطوم، لكن اللحظة الحاسمة — لحظة الانفصال القيمي بين الأجيال — لم تقع بعد.
الثورات العربية: احتجاج بلا قطيعة
عندما انطلقت شرارة الربيع العربي من تونس عام 2010، ساد الاعتقاد أن المنطقة تدخل مرحلة تاريخية جديدة. الملايين الذين خرجوا إلى الشوارع كسروا جدار الخوف وأطاحوا بأنظمة بدت راسخة. تونس ومصر وليبيا واليمن، ثم لاحقًا سوريا، شهدت تحولات صاخبة.
لكن سرعان ما تبيّن أن سقوط الرؤوس لا يعني سقوط البُنى. فسرعان ما استعادت الجيوش والأجهزة الأمنية زمام المبادرة، أو غرقت البلدان في الفوضى والحروب.
الموجة الثانية من الاحتجاجات — في العراق ولبنان والجزائر والسودان — بدت أكثر نضجًا من حيث الخطاب والشعارات. رفعت الجماهير لافتات ضد الطائفية والمحاصصة، وضد حكم العسكر والفساد المستشري.
في العراق مثلًا، مثّلت احتجاجات تشرين 2019 لحظة فارقة، حيث نزل جيل جديد إلى الساحات، متجاوزًا الانقسامات الطائفية، مطالبًا بدولة مدنية تحترم حقوقه. وفي لبنان، رفع شعار “كلّن يعني كلّن” ليعلن القطيعة مع كامل الطبقة السياسية.
لكن، رغم الدماء والتضحيات، انتهت هذه الحركات إلى الإخفاق. في العراق، قُمعت التظاهرات بوحشية، واغتيل قادتها، وبقيت المنظومة السياسية كما هي. في لبنان، تحولت المطالب إلى مجرد انتخابات أعادت إنتاج الطائفية. في السودان، أطاح المحتجون بعمر البشير، لكن الانقلاب العسكري أنهى تجربة الحكم المدني. وحتى في تونس، التي مثلت الاستثناء، سرعان ما عادت النزعة السلطوية مع تراجع الأحزاب وانقسام الشارع.
السبب العميق لهذا الإخفاق أن هذه الثورات بقيت في إطار الاحتجاج السياسي من دون أن تتحول إلى قطيعة قيمية. أي أنها واجهت السلطة في ممارساتها، لكنها لم تواجه المنظومة الاجتماعية والثقافية التي تبرر استمرارها. ولهذا كان من السهل إعادة تدوير النظام نفسه بأشكال مختلفة.
الأجيال والأسوار الخفية
هنا يظهر الفارق مع التجربة النيبالية. فبينما شهدت نيبال انتفاضة أجيال ضد جيل قديم، لم تنجح منطقتنا في إنتاج هذه الفجوة. على العكس، يبدو وكأن الأجيال متطابقة في طريقة التفكير.
في العراق، حرصت الأسرة والعشيرة والنظام التعليمي والديني على أن يفكر الشاب ابن العشرين كما يفكر الرجل السبعيني. تطلعاته لم تتغير: وظيفة حكومية، منزل، زوجة وأطفال. حتى الفتاة العراقية ذات الثلاثة عشر عامًا لا تختلف أحلامها كثيرًا عن أحلام جدتها قبل ثلاثة قرون. في لبنان، رغم كل الأزمات، ما زال كثير من الشباب يعرّفون أنفسهم أولًا بالطائفة قبل أي هوية أخرى. في تونس، عاد الحنين إلى الاستقرار ولو على حساب الحريات.
الأنظمة ليست وحدها من فعل ذلك، بل المجتمع بأسره. السلطة في منطقتنا ليست فقط سلطة الدولة، بل سلطة العائلة والعشيرة والدين والتعليم.

الجميع اتفق على إعادة إنتاج القيم نفسها، بحيث يبقى الشاب سجين ماضٍ لم يعشه. وحتى التكنولوجيا التي ظننا أنها ستفتح أفقًا جديدًا، تحولت إلى أداة للرقابة والترويض:
بدلاً من حجب مواقع التواصل، صار المطلوب من الشباب أنفسهم أن يبلغوا عن "المحتوى الهابط"، ليصبحوا رقباء على بعضهم البعض.
بهذا الشكل، توقفت عجلة الزمن القيمي. العالم يتغير، لكن المنطقة العربية ما زالت تعيش في زمن الجد والأب. وحين يغيب الاختلاف بين الأجيال، يغيب أيضًا شرط الثورة الحقيقية: مواجهة الجديد للقديم.
الدرس النيبالي
إذا كان الربيع العربي الأول فجّر جدار الخوف، والثاني كشف عمق المأزق، فإن أي ربيع ثالث محتمل لن ينجح إلا بتحقيق القطيعة التي شهدناها في نيبال.
القطيعة هنا لا تعني التمرد على الآباء والأجداد فقط، بل إعادة تعريف الذات في مواجهة الدولة والمجتمع معًا.
التجربة النيبالية تذكّرنا أن التغيير يبدأ عندما يدرك جيل كامل أن القيم التي ورثها لم تعد صالحة لعصره. لحظة الانفصال هذه هي التي سمحت للشباب هناك بأن يضعوا السلطة — بكل مؤسساتها — في خانة واحدة: الماضي.
أما في منطقتنا، فما زال الشاب يقدّس الرموز نفسها التي تقدسها السلطة، ويخاف من المسلّمات نفسها، ويطمح إلى الحياة نفسها.
التحرر يبدأ من هنا: من إعلان أن هذه المسلّمات لم تعد تخصنا. من مواجهة الماضي لا باعتباره تاريخًا نحترمه، بل باعتباره ثِقلاً يجب تجاوزه. ومن إدراك أن التغيير لا يقاس فقط بعدد المتظاهرين في الساحات، بل بقدرة جيل كامل على صناعة زمن جديد.
فهل يمكن أن نشهد هذه اللحظة في العالم العربي؟ لا شيء يضمن ذلك، لكن من المؤكد أن بقاء الحال على ما هو عليه يعني أن أي ثورة مقبلة ستعيد إنتاج الفشل نفسه. وحدها القطيعة القيمية، كما حدث في نيبال، قادرة على فتح الباب أمام مستقبل مختلف، حيث لا تكون الثورة مجرد صرخة عابرة، بل ميلادًا لعصر جديد.





Comments