برامج الحوارات السياسية: صفقات خفية لاغتيال حرية التعبير وتضليل المتلقي
- مروان الدليمي

- Oct 7
- 9 min read
بقلم مروان ياسين الدليمي

منذ أن تحولت الشاشات إلى منابر يومية لإنتاج الرأي العام، لم يعد الحديث عن حرية التعبير مسألة متعلقة بالكاتب في عزلته، ولا بالشاعر وهو يفتش عن استعارة في دفتره، بل صار مرهونا باستوديو متخم بالأضواء والمقاعد الوثيرة، حيث يجلس مقدّم أنيق يوزع ابتساماته كما لو كانت أوراق نقدية رخيصة. هناك، في تلك المساحات "المؤدلجة" تحت ستار الحوارات السياسية، تُنفّذ أكبر عمليات الخداع الجماعي، ويُصاغ الرأي العام على هيئة بضاعة معلبة، جاهزة للاستهلاك، بلا طعم ولا رائحة إلا ما يوافق مصالح أصحاب الصفقة.
رؤية معلبة
لقد تغيّر معنى "الرأي العام" نفسه؛ لم يعد حصيلة نقاش حر أو جدل مفتوح، بل صار منتَجا مصنعًا في خطوط إنتاج تلفزيونية. يدخل الضيف إلى الاستوديو كما يدخل ممثل إلى موقع تصوير، يعرف جيدا ما هو دوره: أن يصرخ في اللحظة المحددة، أن يتظاهر بالصدمة عند الكلمة المتفق عليها، وأن ينهي حديثه بعبارة محفوظة تحوّلت مع الوقت إلى لازمة إعلامية. وفي المقابل، يتظاهر المشاهد بأنه يتلقى آراء متباينة، بينما ما يراه ليس أكثر من مشهد مسرحي أُعيدت بروفاته عشرات المرات.
إن الاستوديو، بأضوائه ومقاعده اللامعة، ليس سوى مسرح مُعقّم، تجري فيه عملية تحويل القضايا العامة إلى منتج تسويقي. كل تفصيلة فيه محكومة باعتبارات السوق: زاوية الكاميرا، إيماءة المذيع، الموسيقى التي ترافق المقدمة. كأن حرية التعبير لم تعد جزءا من حياة اجتماعية وسياسية نابضة، بل أصبحت مجرد "عرض بصري" يقدَّم في وقت الذروة لجذب المعلنين. ومن هنا يصبح السؤال خطيرا: هل نحن نتابع حوارا سياسيا أم نشاهد إعلانًا طويل الأمد لرؤية مُعلّبة للعالم؟
الحقيقة - خطأ فني يجب تصحيحه
والأخطر أن هذا المشهد الملمّع يخفي وراءه طبقة من التواطؤ. فما يبدو على الشاشة سجالًا محتدما بين تيارين، قد يكون في العمق مجرد توزيع أدوار ضمن اتفاق ضمني على ما يجب إظهاره وما يجب حجبه. المعارض لا يعارض إلا ضمن الحدود المرسومة، والموالاة لا تخرج عن النص الممنوح لها. أما ما يتجاوز هذه الحدود فيُعتبر "غير صالح للبث"، فيُقطع أو يُستبدل بلقطة ضاحكة للمذيع، كما لو أن الحقيقة خطأ فني يجب تصحيحه فورا.
بهذا الشكل، تتفتت حرية التعبير إلى فتات يُلقى أمام الجمهور لإقناعه بأنه يحضر وليمة فكرية. لكنه حين يقترب أكثر، يكتشف أن المائدة مليئة بالهواء المضغوط: كلمات كبيرة بلا مضمون، شعارات براقة بلا سياق، وحوارات لا تعكس سوى مصالح ضيقة. إن ما يُباع للجمهور تحت لافتة "النقاش السياسي" ليس سوى سلعة، تخضع لآليات العرض والطلب، وتتحدد قيمتها ليس بصدقها، بل بقدرتها على الإبقاء على المشاهد أمام الشاشة أطول وقت ممكن.
المتلقي - رهينة لسيناريو محبوك
بهذا المعنى، لا يعود المتلقي شريكا في صناعة الرأي، بل مستهلكا لرأي جاهز. لا يُستفز ليفكر أو يتساءل، بل يُستدرج ليبتلع. وهذا هو لبّ الخطر: أن تتحول حرية التعبير، التي كان من المفترض أن تحرر الناس من سلطة الخطاب الواحد، إلى وسيلة أكثر فاعلية لتكريس خطاب واحد، لكن بوجوه متعددة وإكسسوارات براقة.
المتلقي، وهو يظن أنه شريك في النقاش، ليس سوى رهينة لسيناريو محبوك سلفا. كل حركة محسوبة، كل نبرة صوت مدروسة، حتى لحظات الصمت التي يظنها عفوية، ما هي إلا فواصل موسيقية بين جمل محفوظة. المشاهد يجلس أمام الشاشة متحمسا، يظن أنه يعيش حدثا فريدا، بينما هو في الحقيقة يتابع عرضا أعيدت كتابته مرارا حتى صار أكثر انضباطا من أي مسرح كلاسيكي.
"حمية فكرية" صارمة للمتلقي وفق قياسات السوق السياسي
الكلمات التي تبدو متعاركة على الهواء مباشرة تتصالح في الكواليس على طاولة خشبية صغيرة، يُسكب فوقها قهوة مرّة، وتُمرر تحتها أوراق الاتفاق. ما يُعرض كصراع حاد بين مواقف سياسية متناقضة ليس سوى إعادة إنتاج لألفة قديمة بين أطراف تعرف جيدا حدودها. الضيف الذي يظهر في دور المعارض الشرس يخرج من الباب الخلفي مبتسما في وجه خصمه المزعوم، يتبادلان نكتة عابرة أو موعدا للقاء مقبل، وكلاهما يعرف أن المسرحية ليست سوى غطاء لتمرير خطاب محدد، صُنع بعناية كي يُقنع المتلقي أن الحقيقة وُلدت للتو أمام عينيه.
الأدهى من ذلك أن هذا "الاتفاق السري" لا يقتصر على حدود الحوار، بل يمتد إلى طبيعة القضايا نفسها. فالموضوعات لا تُختار اعتباطا، بل توضع بعناية على الطاولة، تماما كما تُختار وجبات فاخرة لقائمة مطعم أنيق. هناك قضايا تُدفع إلى الواجهة لتشغل الجمهور، وقضايا أخرى تُخفى بعناية في الأدراج لأنها تهدد مصالح الرعاة والممولين. وهكذا يتحول المشاهد إلى مريض يتلقى "حمية فكرية" صارمة، صُممت لا لتغذيته بل لضبط وزنه بما يتلاءم مع قياسات السوق السياسي.
المتلقي رهينة راضية بقناعات معلبة
ما يضاعف المأساة أن المتلقي، المخدوع بأوهام المشاركة، يخرج من التجربة وهو يظن أنه مارس حقه في التفكير، بينما هو لم يفعل أكثر من إعادة ترديد الجمل التي لُقّنت له بذكاء. إن الضيف والمقدّم ليسا سوى ممثلين في مسرحية لها كاتب غير مرئي: صاحب المال، أو صاحب النفوذ، أو صاحب الصفقة الذي يعرف جيدا أن أصواتهم جميعا ما هي إلا أدوات موسيقية في أوركسترا واحدة.
المتلقي هنا لا يُعامل ككائن حر يملك الحق في التمييز والاختيار، بل كـ "رهينة راضية"، تُقاد نحو القناعة المعلبة بابتسامة المذيع، وتُسلم عقلها للسيناريو كما يسلم النائم نفسه لحلم لا يملك التحكم فيه. وهنا تكمن الخدعة الكبرى: أن يُمنح الجمهور وهم الحرية بينما هو في قلب الأسر.
إنه أسر لا يحتاج إلى قضبان، لأن الشاشات قامت بالمهمة على أكمل وجه. يكفي أن يرى المشاهد الخصمين يتبادلان الشتائم ليتوهم أنه يشاهد مواجهة حقيقية، بينما الحقيقة أن ما يُعرض أمامه ليس أكثر من مبارزة استعراضية، نتيجتها محسومة سلفا. فالمنتصر ليس الفكرة الأقوى ولا الحجة الأوضح، بل الخطاب المتفق عليه خلف الطاولة، حيث لا كاميرات ولا جمهور، فقط صمت متواطئ وأيدٍ تُصافح تحت الستار.
حرية التعبير – واجهة المتاجر الإعلامية
ما أخطر أن تتحول حرية التعبير إلى عملة مزيفة، تُتداول بين المنتفعين كما يتداول السماسرة حصصهم في بورصة الرموز الوطنية. إننا لا نتحدث هنا عن حرية بالمعنى الفلسفي العميق، بل عن نسخة مزخرفة تُعرض في واجهة المتاجر الإعلامية، بينما البضاعة الحقيقية ـــ حرية الرأي الصادقة ـــ تُهرّب إلى الأقبية حيث لا يراها أحد. نحن نعيش زمنا معكوسا: كلما ارتفع الحديث عن الحرية، ازداد التضييق على مساحتها الفعلية، وكلما ارتفع الضجيج عن التعددية، صار الواقع أكثر توحّدا خلف خطاب واحد متفق عليه.
الإعلام يبيعنا وهم المعارضة والاختلاف كما يبيع متجر فاخر حقائب مقلّدة تحمل شعار الماركات الأصلية. لا شيء فيها حقيقي سوى العلامة اللامعة، أما الداخل فهو قماش رخيص، يتفتت عند أول استعمال. هكذا تُعرض المعارضة على الشاشة: مصنوعة، مصقولة، موجهة، لكنها فارغة من جوهرها. والنتيجة أن الجمهور، بدلا من أن يخرج أكثر وعيا، يجد نفسه في غيبوبة مدروسة، غيبوبة لا تُفقده القدرة على الرؤية فقط، بل تجعله يتوهم أنه يرى بوضوح.
إنها غيبوبة منتجة بعناية، ضباب كثيف من العبارات المكرورة، الاتهامات المعلبة، الحقائق المشوهة، كأننا أمام مصنع ضخم يعيد تدوير الكلمات ذاتها في كل حلقة، ويضع عليها ملصقا جديدا ليقنعنا أننا بصدد "حدث عاجل". لكن لا شيء عاجلا سوى الحاجة المستمرة لإبقاء المشاهد مشغولا، متوترا، فاقدا للقدرة على التساؤل الجذري: من يكتب النص فعلا؟ ومن يحدد خطوط الحوار؟
البرامج الحوارية – سوق سرية للتفاوض
حين نراقب هذه البرامج بدقة، نكتشف أن "الحوار" لم يعد بحثا عن الحقيقة، بل أصبح أقرب إلى سوق سرية للتفاوض. كل جملة تحمل بندا من عقد خفي، كل كلمة تأتي مشروطة بسقف غير معلن، حتى الصمت ـــ ذلك الفراغ بين الكلمات ـــ صار يفضح ما لا يُقال، ويكشف حدود اللعبة. وحين يعلو الصراخ أو يقع انسحاب درامي أمام الكاميرا، نظن أننا شهود على مواجهة محتدمة، لكن الحقيقة أن تلك الانفعالات ليست سوى فواصل مسرحية لإيهام الجمهور أن التاريخ يُكتب في هذه اللحظة، بينما التاريخ الحقيقي قد كُتب منذ ساعات في غرفة مغلقة، على طاولة يجلس حولها رجال يعرفون جيدا ما الذي يجوز قوله، وما الذي يجب دفنه.
الأكثر خطورة أن هذه المسرحيات المتكررة لا تكتفي بتضليل المشاهد في اللحظة الراهنة، بل تعيد تشكيل وعيه على المدى الطويل. فحين يتكرر المشهد، تصبح العادة أقوى من الشك، وتتحول الأكاذيب إلى مسلمات، ويغدو الوهم أشد رسوخا من الحقيقة. والمشاهد الذي كان يظن نفسه جزءا من حوار حيّ، يصبح تدريجيا جزءا من جمهور مدرَّب على التصفيق، لا على التفكير.
صناعة حرية زائفة وظيفتها حجب الحقيقة
هكذا يتبين أن المشكلة ليست في وجود رقابة مباشرة، بل في صناعة حرية زائفة. حرية على شكل عرض مسرحي مبهر، وظيفتها أن تحجب الحقيقة لا أن تكشفها، وأن تُبقي المتلقي في دائرة مفرغة، يتنقل بين الأصوات المختلفة لكنه لا يجد سوى صدى واحد يتكرر بأشكال متعددة: ابقَ هادئا، وصدّق أن كل شيء تحت السيطرة.
إن تزييف الوعي هنا لا يتم بالقمع المباشر كما في الأنظمة التقليدية التي كانت تسكت الصوت بالعصا، بل بخدعة أشد فتكا: الإيهام بالحرية. فالمشاهد، وهو يتنقل بين القنوات ويصغي إلى أصوات متعددة، يظن أنه أمام فسيفساء من الآراء، بينما هو في الحقيقة داخل متاهة مصممة بعناية، لا مخارج لها إلا ما تسمح به يد خفية ترسم مساراتها. الأصوات التي تبدو متعاركة ومتناقضة ليست سوى أدوات في معزوفة واحدة، كل منها يؤدي نغمة محددة سلفا ليكتمل الإيهام بالتعددية.
المتلقي يخرج من هذه التجربة كما دخل: خالي الوفاض من أي معرفة حقيقية. لكنه لا يعود فارغا تماما، بل محمّلا بجرعة خطيرة من الثقة المضللة. يشعر بأنه "أصبح عارفا"، بينما كل ما اكتسبه ليس سوى نسخة معدلة من جهله القديم. وهذه الثقة المضللة أخطر من الجهل ذاته، لأنها تُقفل باب السؤال، وتمنع الانتباه إلى الفراغ، فيصدق أنه شريك في الحوار وهو لا يعدو أن يكون متفرجا صامتا في مسرحية مدفوعة الأجر، اشترى تذكرته بوقته وبمخيلته.
لغة مصقولة لكنها كعلب معدنية فارغة
وليس بعيدا عن هذا المشهد، يُعاد تشكيل القاموس السياسي نفسه عبر لغة مصقولة، لكنها جوفاء كعلب معدنية فارغة. تُختزل القضايا الكبرى ـــ من الحرية والعدالة والكرامة ـــ إلى شعارات لامعة يسهل ابتلاعها: "الاستقرار"، "المصلحة الوطنية"، "الحوار البناء".
كلمات تلمع تحت الضوء مثل عملات معدنية جديدة، لكن قيمتها الحقيقية لا تتجاوز قيمتها كخدعة لغوية. والمفارقة أن هذه الكلمات، مع كثرة ترديدها، تتحول إلى مفاتيح للتفكير ذاته، فيستعملها الجمهور وكأنها مفاهيمه الخاصة، بينما هي في الأصل أدوات خُطط لها لتقييد تفكيره.
هنا يكمن الخطر الأكبر: أن تتحول الأكاذيب الصغيرة إلى لغة يومية، وأن تصبح الأوهام جزءا من التداول العادي للكلام. حينها، يغدو من المستحيل التمييز بين الحقيقة والزيف، لأن الأداة التي يفترض أن نكتشف بها الزيف ـــ اللغة ـــ نفسها أصبحت ملوثة. وما بدأ كاتفاق صغير بين ضيف ومقدم ومالك قناة، يتحول بمرور الوقت إلى حقيقة متداولة، يعيشها الناس، ويرددونها بألسنتهم، حتى تصبح جزءا من وعيهم الجمعي.
النتيجة أن الأكاذيب لم تعد مجرد روايات عابرة أو تصريحات طارئة، بل تحوّلت إلى نظام حياة كامل. نظام يعمل بفاعلية لأنه لا يحتاج إلى جهد في الإقناع، فالناس أنفسهم صاروا وكلاءه، يكررون عباراته ويعيدون إنتاج شعاراته في أحاديث المقاهي ومجالس العمل ووسائل التواصل. هكذا، يتحول التضليل من صفقة خلف الكواليس إلى هواء يتنفسه المجتمع كله، بينما تُعرض المسرحية على أنها "الحرية في أبهى صورها".
إنها قمة المفارقة: أن يتحول السقف الحديدي للخطاب إلى سماء زرقاء في نظر الجمهور، وأن يتوهم الناس أنهم يملكون أصواتهم، بينما هم يرددون ما لُقن لهم بدهاء، كالببغاوات التي تعتقد أن صدى صوتها هو صوتها الخاص.
قمع معولم محسوب بالثواني والإيماءات
وإذا حاول أحد أن يكسر هذه الدائرة المحكمة، أن يتفلت من النص الجاهز أو يقول ما لم يُتفق عليه، سرعان ما يُعاد إلى الصمت بطرق بالغة التهذيب. لا حاجة هنا إلى رفع العصا أو الصراخ في الميكروفون؛ يكفي أن يُقطع عنه الصوت بذريعة "خلل تقني"، أو يُستبدل على الفور بضيف أكثر انضباطا في لعبة الأدوار، أو يُمحى أثره من الأرشيف الإلكتروني كما لو أن وجوده لم يكن إلا وهما عابرا. هذا ليس قمعا بالمعنى الكلاسيكي، بل هو قمع مُعولم، محسوب بالثواني والإيماءات، يتخفى وراء شعارات "إدارة الوقت" و"التوازن بين الآراء". في الظاهر، مجرد قواعد مهنية رتيبة، أما في الجوهر فهي عملية اغتيال باردة لحرية التعبير، تُنفّذ بابتسامة المذيع نفسه.
قد يقال: وما الغريب في ذلك؟ أليس الإعلام بطبيعته مجالا للمصالح؟ لكن الخطر ليس في أن نكتشف مصالحه، بل في ادعائه أنه منزّه عنها. الخطر الحقيقي يكمن حين يصرّ الإعلام على لعب دور الحكم النزيه، بينما هو الطرف الأكثر تورطا في الصفقة. ليس من المأساوي أن نعلم أن هناك سوقا للرأي، بل أن نُخدع بأننا أمام نقاش صادق، بينما ما يجري في الحقيقة ليس سوى مقايضة فجة بين شركاء يعرف كل منهم حدوده وأرباحه.
وحين يُبنى وعي الناس على مقايضة، فإن النتيجة لا تكون مجرد تضليل عابر، بل إعادة تشكيل كاملة للخريطة الذهنية للمجتمع. كل موقف سياسي لاحق، كل قرار اجتماعي، كل نقاش شعبي، يصبح انعكاسا لتلك الصفقات الخفية. هنا لا يعود الرأي نتاجا لتفكير حر، بل امتدادا لعقود لم يوقّعها الجمهور قط، ومع ذلك تُفرض بنوده على حياته اليومية.
متاجر لبيع الأكاذيب المغلفة بورق لامع
إن ما يجري اليوم أشبه بواجهة متجر براقة: رفوف مليئة بشعارات الحرية والتعددية، مصفوفة بترتيب أنيق، بينما البضاعة الحقيقية ـــ النقاش الصادق ـــ تُهرّب إلى الخلف حيث تتم عمليات البيع والشراء الحقيقية. يدخل المشاهد إلى هذا المتجر متعطشا للمعرفة، راغبا في أن يحمل بين يديه ثمرة نقاش نزيه، لكنه يخرج محملا بأكياس من الأكاذيب المصقولة، مغلفة بورق لامع يخطف الأبصار. وكلما ازداد لمعان الورق، كلما ازداد يقين المشاهد أنه اشترى "الحقيقة". غير أن الحقيقة الوحيدة التي تبقى بلا زينة: أن حرية التعبير ذاتها أصبحت هي السلعة المباعة، والزبون لا يدري أنه يدفع ثمنها مرتين؛ مرة من وعيه، ومرة من ثقته.
والأدهى أن هذا الخداع لا يتوقف عند حدود تضليل المشاهد في لحظته الراهنة، بل يزرع في داخله عجزا طويل الأمد: مناعة ضد الحقيقة نفسها. فما تفعله هذه البرامج ليس مجرد طمس الوقائع، بل تدريب الجمهور على رفض أي خطاب صادق إذا لم يأتِ مزينا بالأسلوب المألوف من الصراخ والتلميع. يصبح الصدق غريبا مثيرا للريبة، بينما يحظى الكذب المكرر بمكانة "الموضوعية". وعند هذه النقطة يتحول التضليل من أداة سياسية إلى ثقافة عامة، من تكتيك إعلامي إلى استبداد متجذر.
استبداد يتحدث بلغة الحرية
هذا هو أخطر أشكال الاستبداد: استبداد لا يرتدي عباءة القمع، بل يتحدث بلغة الحرية نفسها. قمع يطل من وراء ديكور الاستوديو وألوان الغرافيك، قمع يتنكر في صورة "الحوار"، لكنه لا يترك للحوار سوى قشرة زائفة تخفي خواءً عميقا.
لقد آن الأوان أن نطرح السؤال الذي يخشاه هؤلاء جميعا: إذا كانت حرية التعبير مجرد صفقة، فمن يملك الحق في التوقيع باسمنا ؟
وإذا كان وعي الناس لا يُصاغ إلا في استوديوهات مملوكة لأصحاب المال والسياسة، فبأي معيار يمكننا أن نصف أنفسنا أحرارا؟
إن الجواب يظل معلقا في الفراغ، لكنه يزداد وضوحا كلما تأملنا تلك الشاشة المضيئة التي أظلمت وعينا، وأهدتنا وهما جميلا يحمل اسما براقا: "الحوار السياسي".
إن أخطر ما تفعله هذه البرامج ليس أنها تخـدعـنا، بل أنها تُعيد تعريف الخداع على أنه حقيقة. وحين يصبح التضليل قاعدة، يغدو الصدق استثناءً غير مرغوب فيه. عندها، لا تعود المشكلة في حرية التعبير التي صودرت، بل في وعيٍ قُيّد وهو يصفّق وهو يظن أنه حر.
مروان ياسين الدليمي، شاعر وروائي وناقد وصحفي ومقدّم برامج عراقي؛ حاز جوائز للإخراج الشعري والأفلام القصيرة.
الآراء الواردة في هذا المقال تعكس وجهة نظر الكاتب فقط ولا تمثل آراء نيسابا ميديا.





Comments