
الدين والجسد والسلطة: جدلية المسكوت عنه في المجتمعات العربية
- نيسابا ميديا
- Sep 18
- 3 min read
منذ بدايات القرن العشرين، ظلّ سؤال العلاقة بين الدين والجسد والسلطة من أكثر الأسئلة تعقيداً في المجتمعات العربية.
فالمحرّمات الاجتماعية والثقافية لم تكن يوماً مجرد تفاصيل حياتية، بل تحوّلت إلى أداة سياسية وأخلاقية في يد الدولة والمؤسسات الدينية، تحدّد من خلالها حدود المسموح والممنوع. ورغم التحولات الاقتصادية والتكنولوجية، ما تزال هذه الجدلية قائمة، تُعيد إنتاج نفسها بأشكال جديدة، من التعليم إلى الإعلام، ومن الفتاوى إلى قوانين الأسرة.
الجذور التاريخية للصراع
في العام 1925، أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتابه الشهير الإسلام وأصول الحكم الذي أثار ضجة واسعة حينما دعا إلى الفصل بين الدين والسياسة، مؤكداً أنّ الإسلام لم يفرض نموذجاً محدداً للحكم.
هذا الكتاب هو لحظة فارقة كشف مبكراً حساسية السؤال: هل يمكن للدين أن يبقى خارج لعبة السلطة؟
منذ ذلك الحين، توالت الجدالات التي جعلت من الدين والجسد والسلطة مثلثاً متشابكاً يستعصر التفكيك.
الجسد بين الفضاء الخاص والعام
تظلّ قضايا الجسد، من الحرية الجنسية إلى حقوق المرأة، محاطة بطبقات من المحرّمات. ففي استطلاع "الباروميتر العربي" الأخير (2023)، عبّر أكثر من 60% من الشباب العرب عن رفضهم القاطع لربط الدين بالسياسة، بينما ظلّت القضايا المرتبطة بالجسد، مثل حرية الملبس أو الميول الجنسية، أكثر حساسية وارتباطاً بالموروث العائلي والتقاليد.
في مصر مثلاً، كشفت دراسة بعنوان كسر التابو: محددات المعرفة والمواقف الجنسية لدى النساء المصريات (2023) أنّ أكثر من نصف المشاركات لم يحصلن على أي معرفة جنسية علمية في المدارس، وأنّ معظم المعلومات تصل إليهن عبر مصادر غير موثوقة.
هذا النقص في المعرفة يترك الجسد أسير الخرافة والخوف، ويعيد إنتاج سلطات العائلة والدين والدولة.
السلطة والدين: أداة ضبط اجتماعي
توظيف الدين كأداة سياسية ليس جديداً في المنطقة. ففي استطلاع أجرته "عرب نيوز" بالتعاون مع "يوغوف" (2019)، صرّح 79% من المشاركين العرب أنّهم يرفضون استغلال الدين لتحقيق مكاسب سياسية.
ورغم هذا الرفض الشعبي، ما تزال السلطات السياسية تعتمد على الخطاب الديني لإضفاء شرعية على قراراتها، من قوانين الأحوال الشخصية إلى سياسات الإعلام.
يرى الدكتور سامي النجار، أستاذ علم الاجتماع السياسي من تونس، أنّ "المؤسسة السياسية في العالم العربي وجدت في الدين وسيلة للسيطرة الناعمة؛ فهي لا تكتفي بالقوة الأمنية، بل تستحضر القوة الرمزية التي يمتلكها الخطاب الديني لتبرير القرارات وقمع المعارضة".
بين الأجيال: مساحات جديدة للنقاش
مع انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، تغيّر المشهد. النقاشات التي كانت تعتبر "تابوهات" بدأت تتسرّب إلى المجال العام. دراسة منشورة في مجلة البحوث الطبية على الإنترنت (2018) عن "خطاب التعرّض للمحتوى الجنسي عبر الإنترنت بين المراهقين العرب وأهاليهم" أظهرت أنّ 47% من المراهقين الذين شملتهم الدراسة اطّلعوا على محتوى جنسي دون علم الأهل.
تعلّق الدكتورة ليلى حداد، أستاذة علم النفس الثقافي من لبنان، قائلة: "الأجيال الجديدة لم تعد تتعامل مع الجسد كموضوع مسكوت عنه. الإنترنت فتح الباب لمساحات نقاش يصعب على الرقابة التقليدية أن تضبطها، وهذا يخلق فجوة كبيرة بين جيل يعيش بعقلية الماضي وجيل يبحث عن حريته".
في المقابل، يرى الباحث أحمد كيلان من الأردن، أنّ "الانفتاح الرقمي قد يحرّر النقاش، لكنه يهدّد أيضاً بزيادة التشظي الاجتماعي، فالنقاشات المفتوحة لا تؤدي دائماً إلى تقبّل متبادل، بل أحياناً إلى مزيد من الانقسامات والصدامات".
من يملك الجسد والسلطة؟
يبقى السؤال الأعمق: من يملك حقّ تحديد حدود الجسد والسلطة والدين في العالم العربي؟ هل هي الدولة؟ أم المؤسسة الدينية؟ أم العائلة؟ أم الفرد؟
التحولات الجارية اليوم لا تعطينا جواباً نهائياً، بل تضعنا أمام مشهد متناقض: رفض شعبي متزايد لتسييس الدين، مقابل استمرار حضوره في المؤسسات والقوانين؛ رغبة شبابية في نقاش حرّ، مقابل جدران من الرقابة الاجتماعية؛ وانفتاح تكنولوجي يفتح الباب لحرية التعبير، لكنه يعرّض الأفراد أيضاً لعنف رمزي ورقمي.
إنها جدلية لم تُحسم بعد، وستبقى مفتوحة على احتمالات متعددة، بانتظار أن تنضج مجتمعاتنا في صياغة توازن جديد بين الدين، السياسة والجسد.





Comments