top of page
  • Instagram

قاعة العرس بلا أب: حين تتغلب التقاليد على الأبوة في العراق

  • Writer: نيسابا ميديا
    نيسابا ميديا
  • Sep 15
  • 4 min read
حفل زفاف / بغداد
حفل زفاف / بغداد

نيسابا ميديا (بغداد، العراق)


في معظم دول العالم، حضور الأب زفاف ابنته يعد من اللحظات الأكثر رمزية وعاطفة. صور الآباء وهم يمسكون بأيدي بناتهم ليوصلوهن إلى عرائسهن تتصدر ألبومات العائلات، وتشكل ذكرى أبدية عن لحظة فاصلة بين الطفولة والاستقلال.


في أوروبا مثلًا، أو حتى في دول عربية كالمغرب وتونس ولبنان، مشهد الأب وهو يجلس بجانب ابنته أو يرافقها في قاعة الحفل مألوف ولا يثير أي جدل. لكن في العراق، تختفي هذه الصورة من الذاكرة الجمعية. هنا، يظل الأب غائبًا، لا يشارك في تفاصيل العرس ولا يجلس في القاعة، بل يبقى في البيت أو يغادر إلى مكان آخر إذا كان الاحتفال يقام في منزل العائلة.


هذا الغياب ليس مجرد صدفة فردية، بل هو قاعدة اجتماعية راسخة تشكلتها العادات والأعراف القبلية، وأصبحت جزءًا من صورة الزواج العراقي. الأب لا يُرى في "يوم عمر" ابنته، وهو يوم يقال إنه الأهم في حياتها. ذلك لأن "الرجولة" في المخيال الجمعي الذكوري مرتبطة بالوقار والبعد عن أجواء الرقص والموسيقى والاختلاط، و رؤية "الرجل" الذي سيجامع إبنتهُ هذهِ الليلة. وكأن الفرح عار إذا شارك فيه رجل في موقع أبوي.


سارة (٢٦ عامًا)، وهي شابة من بغداد، تروي تجربتها بمرارة: "كنت أحلم أن يرافقني والدي إلى قاعة العرس، أن يضع يدي في يد زوجي كما يحدث في الأفلام. لكن حين سألت أمي إن كان سيحضر، ضحكت وقالت: مستحيل. المجتمع لن يرحمنا. والدي نفسه رفض مناقشة الموضوع لأنه يعتبره تجاوزًا للتقاليد."


هذا الرفض لم يكن حالة فردية، بل يعكس سلوكًا عامًا. الأخصائية الاجتماعية د. ميسون العزاوي ترى أن غياب الأب عن زفاف ابنته هو أحد أشكال السلطة الذكورية المستترة: "المجتمع يفرض على الرجل أن يبقى خارج المشهد وكأن وظيفته تنتهي عند تزويج ابنته. لكن في العمق، هو شكل من أشكال ضبط النساء وتقييد صورتهن. الأب لا يشارك فرح ابنته لأن الفرح هنا محاط بالرقص والغناء، وهذه أمور تعتبر ضمنيًا 'لا تليق' بالرجال، رغم أنها مناسبة أسرية بامتياز."


بين الريف والمدينة


ورغم مظاهر التمدن في بغداد والبصرة وأربيل، تبقى الأعراف الريفية والقبلية حاضرة بقوة. العراق لم يتحرر بالكامل من بنية المجتمع العشائري التي ترى في الرجل رمزًا للهيبة والصمت، بينما النساء يُتركن لمجال العاطفة والتعبير. حتى في المدن، حيث الجامعات، والمراكز الثقافية، والمقاهي الحديثة، تُستنسخ نفس الأعراف القديمة.


توضح نجلاء (٢٩ عامًا) من مدينة الحلة: "كنت أول من يتزوج من بين أخواتي. في يوم العرس، شعرت بفراغ كبير. أبي كان في البيت، ينتظر مكالمة من أختي لتطمئنه أن كل شيء بخير. لم أستوعب كيف أن أقرب شخص لي لا يشارك لحظة دخولي لقاعة زواجي. أصدقائي من لبنان والأردن أرسلوا لي صورًا من حفلاتهم، حيث الآباء يرقصون مع بناتهم. المقارنة كانت قاسية."


صور أخرى من العالم


حول العالم، الآباء لا يترددون في المشاركة. في القاهرة أو عمان، من الشائع أن ترى الأب يشارك في الرقص أو على الأقل يجلس في الصف الأول. في فرنسا أو كندا، يُعتبر دخول الأب مع ابنته إلى القاعة تقليدًا أساسيًا، حتى صار رمزًا ثقافيًا. هذا التناقض يضع العراق في حالة استثنائية: بلد يختفي فيه الأب في واحدة من أهم اللحظات العائلية.


الخوف من كلام الناس


جزء من المشكلة ينبع من "الخوف من المجتمع". كثير من الآباء قد يرغبون فعلًا بمشاركة بناتهم الفرح، لكنهم يخضعون لضغط النظرة الاجتماعية. تقول مريم (٢٧ عامًا) من البصرة: "طلبت من أبي أن يجلس بجانبي ولو لخمس دقائق. قال لي: 'أنا لا أخاف منك يا بنتي، أخاف من كلام الناس.' يومها بكيت أكثر من مرة، لأنني شعرت أنني أقل قيمة من هذه التقاليد."


الناشطة النسوية هبة جابر ترى أن هذه الظاهرة تكشف هشاشة مفهوم الرجولة السائد:


"الذكورية العراقية تعيد تعريف الأبوة في إطار السيطرة لا المشاركة. الأب يزوج ابنته، لكن لا يشارك في لحظتها الإنسانية. الرسالة غير المعلنة هي أن الفرح للنساء، والهيبة للرجال. هذه ثنائية تضعف الروابط العائلية، وتجعل الزواج مناسبة ناقصة."


تمدن مشوّه


حتى في المدن الكبرى، محاولات التمدن غالبًا ما تتوقف عند السطحيات. القاعات الفخمة والفنانين الذين يحيون الحفلات لم يغيّروا من الأعراف. فما يزال حضور الأب 'ممنوعًا'.


تقول د. أيلاف العزاوي: "ما يحدث هو أن الريف انتصر على المدينة. التقاليد العشائرية طغت على المظاهر المدنية. هناك مدن كاملة لا يجرؤ فيها أب على كسر القاعدة."


هذا النمط يعكس أيضًا إقصاء النساء من مراكز القرار داخل العائلة. فالابنة لا تستطيع الاعتراض علنًا، والأم غالبًا ما تبرر الغياب بأنه "عادة".


أصوات تطالب بالتغيير


في السنوات الأخيرة، ظهرت دعوات خجولة لكسر هذه القاعدة. على وسائل التواصل الاجتماعي، تتداول ناشطات صورًا من دول عربية يظهر فيها الآباء وهم يرقصون أو يجلسون بجانب بناتهم العرائس، في محاولة لإعادة طرح السؤال: لماذا لا يحدث ذلك في العراق؟


لكن التغيير بطيء. تقول نجلاء: "بعد زواجي، صار عندي قناعة أنني سأكسر القاعدة مع ابنتي. إذا رزقني الله ببنت وتزوجت، سأحرص أن يكون والدها معها. يكفينا غياب الآباء."


وماذا بعد؟


غياب الأب عن زفاف ابنته في العراق ليس مجرد تفصيل شكلي، بل انعكاس لثقافة ذكورية ترى في العاطفة ضعفًا، وفي مشاركة الرجل في الفرح انتقاصًا من هيبته. مقارنة ببقية الدول العربية والعالم، يبدو العراق عالقًا بين قبضة الأعراف الريفية وأوهام "الرجولة الصامتة".


لكن أصوات النساء، مثل سارة وزينب ونجلاء، تكشف أن هذا الغياب لم يعد طبيعيًا، بل أصبح جرحًا شخصيًا وجماعيًا. ومع ضغط الناشطات والأخصائيات الاجتماعيات، ثمة أمل أن يأتي يوم نرى فيه الأب العراقي يجلس بجانب ابنته في قاعة الفرح، لا بعيدًا عنها. يومها، قد تنتصر الأبوة على الأعراف.

Comments


bottom of page