
حلبجة.. المدينة التي حاول صدام أن يمحوها من الوجود
- نيسابا ميديا
- Sep 19
- 4 min read
نيسابا ميديا (حلبجة، أقليم كردستان، العراق)
في أقصى الشمال الشرقي من العراق، على بعد نحو 240 كيلومتراً من بغداد، تقع مدينة حلبجة، عاصمة المحافظة التي تحمل اسمها اليوم. كانت المدينة في عام 1988 مأهولة بحوالي 80 ألف نسمة من الأكراد، يعيشون في قلب سهل شهرزور الخصيب، يحيط بهم نهر سيروان وسلاسل جبلية مثل هورمان وبلمبو.
على ارتفاع يناهز 700 متر عن سطح البحر، شكّلت حلبجة موطناً متنوعاً من القرى والمراعي والبيوت المتناثرة، وهي منطقة حدودية على تماس مباشر مع إيران.
لكن هذا الموقع الذي منحها عبر التاريخ أهمية استراتيجية واقتصادية، جعلها أيضاً عرضة لصراع سياسي دامٍ. فمع اشتداد الحرب العراقية الإيرانية (1980–1988)، أصبح الأكراد بين فكي كماشة: سلطة مركزية بعثية يقودها صدام حسين وترى في أي تحرك كردي خطراً وجودياً، وحدود مفتوحة مع إيران التي استغلّت بعض الفصائل الكردية لتقويض بغداد.
وفي هذا المشهد المليء بالدماء، صعد اسم علي حسن المجيد، ابن عم صدام، الذي لقّب لاحقاً بـ"علي الكيماوي"، كمهندس لسياسات الأرض المحروقة ضد القرى الكردية.
البعث والأكراد: صراع لم يعرف الرحمة
لم تكن علاقة النظام البعثي بالأكراد علاقة مواطنة متساوية، بل علاقة خوف وإقصاء. فبينما رفع النظام شعارات الوحدة القومية، نظر إلى الأكراد بوصفهم "مشكلة أمنية".
وبلغت هذه النظرة ذروتها مع عمليات الأنفال التي أطلقت عام 1988، حيث دمّر الجيش العراقي آلاف القرى الكردية في شمال البلاد.
لكنّ حلبجة لم تكن مجرد قرية معزولة يسهل محوها، بل مدينة كبيرة لها رمزية سياسية وحضور ديموغرافي واسع.
في 16 آذار/مارس من العام نفسه، قرر النظام أن يجعل من حلبجة مثالاً يرهب به الآخرين.
يوم المجزرة: سماء تمطر موتاً
صباح ذلك اليوم، كانت الحياة في حلبجة تسير بشكل طبيعي. العائلات في الأسواق، الأطفال في الطرقات، والناس يحاولون التأقلم مع وقع الحرب القريبة. لكن مع الظهيرة، بدأت الطائرات العراقية بالتحليق.
ثماني طائرات حربية ألقت قنابل محملة بغازات السارين والخردل والسيانيد، و هي غازات محظورة دولياً. لم يستغرق الأمر سوى دقائق حتى تحوّلت المدينة إلى مسرح موت جماعي.
تساقط الناس في الشوارع كما لو أن الزمن توقف. لم تُحدث القنابل دماراً عمرانياً كالذي يسببه القصف التقليدي، لكنها أحرقت الرئة والعينين والجلد. مشهد الجثث كان مرعباً:
نساء يحتضنّ أطفالهن وقد فارقوا الحياة، رجال مسنّون ساقطون قرب أبواب منازلهم، وطيور وحيوانات نافقة تغطي الطرقات.
بحسب التقديرات، قُتل أكثر من 5 آلاف إنسان في ساعات قليلة، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ.
فيما أُصيب ما بين 7 آلاف و10 آلاف بجروح أو إعاقات دائمة. وفي الأشهر التالية، توفي آلاف آخرون نتيجة الأمراض والمضاعفات.
شهادات الناجين: ذاكرة لا تموت
يروي أحد الناجين: "كنت أظن أنّها قنابل عادية. لكن فجأة بدأت أشعر بحرقة في العينين وكأنّني أبتلع ناراً. سقط إخوتي أمامي واحداً تلو الآخر. لم أجد وقتاً لأبكي، فقط أردت أن أهرب من الهواء نفسه."
امرأة أخرى قالت: "استيقظت بعد ساعات في مكان يشبه الجحيم. رأيت أبي وأمي وأطفالي الثلاثة جثثاً باردة. تمنيت لو أنني متّ معهم."
تلك الشهادات المروّعة تعكس أنّ المجزرة لم تكن مجرد رقم في تقارير، بل مأساة إنسانية حفرت جرحاً في وجدان الأكراد والعراقيين جميعاً.

العالم يفتح عينيه متأخراً
رغم هول ما جرى، ترددت أصوات عالمية في إدانة المجزرة فوراً. المصالح السياسية والحرب الباردة والتوازنات مع إيران جعلت بعض القوى الكبرى تتجاهل الأدلة الأولى. لكن لاحقاً، أكدت محاكم دولية أنّ ما حدث في حلبجة هو "أكبر هجوم كيميائي استُخدم ضد مدنيين من عرق واحد في التاريخ الحديث".
في 23 كانون الأول/ديسمبر 2005، قضت محكمة هولندية بسجن رجل الأعمال فرانس فان 15 عاماً بعد ثبوت بيعه مواد كيميائية للنظام العراقي استُخدمت في الهجوم. كما أقرت المحكمة نفسها بأنّ صدام حسين ارتكب جريمة إبادة جماعية.
أما في العراق، فقد وُجهت التهم رسمياً إلى صدام وعلي حسن المجيد بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. أُعدم صدام في نهاية 2006 في قضية الدجيل، فيما أُعدم "علي الكيماوي" في 2010.
مدينة تنهض من الرماد
لكن ماذا عن حلبجة نفسها بعد أن غطاها الموت؟ لعقود بقيت المدينة في وضع إداري غامض بين بغداد وأربيل. لم تنل حصتها من الإعمار أو الاهتمام، وظل أهلها يعانون البطالة وغياب الخدمات.
وفي عام 2014، اعترفت حكومة إقليم كردستان بها محافظة رابعة ضمن الإقليم، لكن بغداد لم تعترف رسمياً إلا عام 2025، حين صوّت البرلمان العراقي لجعلها المحافظة رقم 19.
اليوم، يبلغ عدد سكان حلبجة نحو 145 ألف نسمة. ورغم مرور 37 عاماً على المجزرة، ما زالت آثارها حاضرة: جروح في أجساد الناجين، أمراض تنفسية مزمنة، تشوهات خلقية في أجيال لاحقة، وذاكرة مثقلة بالصور التي لا تُمحى.
مأساة تحولت إلى رمز
بالنسبة للأكراد، لم تكن حلبجة مجرد مدينة ضُربت بالسلاح الكيماوي، بل رمزاً لمظلومية تاريخية ومحاولة إبادة. كل عام، في 16 آذار، تُقام مراسم إحياء ذكرى المجزرة، حيث تُقرأ أسماء الضحايا وتُعرض صورهم، في رسالة للعالم بأنّ هذه الجريمة لن تُنسى.
قالت نوخشة ناصح، أول امرأة تتولى منصب محافظ في العراق عندما عُينت محافظةً لحلبجة عام 2025: "إنّ استحداث هذه المحافظة هو رسالة بأنّ دماء الضحايا لم تذهب هدراً، وأنّهم يرقدون اليوم في سلام."
جرح مفتوح ونداء للعدالة
حلبجة لم تعد مجرد صفحة في كتاب الحرب العراقية الإيرانية، بل صارت رمزاً عالمياً لما قد تفعله الأنظمة الدكتاتورية حين تتحول الشعوب إلى أعداء في نظرها. إنها شهادة على أنّ استخدام السلاح الكيماوي لا يدمّر المدن فحسب، بل يفتت النسيج الإنساني عبر أجيال.
المدينة التي حاول صدام حسين أن يمحوها من الخريطة، ما زالت تقف شامخة، لكنها تحمل جرحاً لم يندمل بعد. جرحٌ يذكّر كل من يمرّ من هناك بأنّ التاريخ لا يُمحى، وأنّ العدالة، مهما تأخرت، لا بد أن تُكتب.





Comments