top of page
  • Instagram

الجفاف في العراق يكشف مقابر أثرية قديمة و لكن..

  • Writer: نيسابا ميديا
    نيسابا ميديا
  • Sep 1
  • 3 min read
رجل يعمل على قبر مكتشف على ضفاف سد الموصل في موقع أثري بناحية خانك التابعة لمحافظة دهوك، العراق، 30 آب/أغسطس 2025 [إسماعيل عدنان/فرانس برس].
رجل يعمل على قبر مكتشف على ضفاف سد الموصل في موقع أثري بناحية خانك التابعة لمحافظة دهوك، العراق، 30 آب/أغسطس 2025 [إسماعيل عدنان/فرانس برس].

نيسابا ميديا (نينوى، العراق): حينما مسح علماء الآثار ضفاف خزان سد الموصل عام 2023، لم يلاحظوا سوى خطوط باهتة من الحجر تظهر من الطين. في ذلك الوقت، كانت المياه تغطي معظم المنطقة، ولم يظهر سوى شذرات توحي بوجود ما هو أعمق. لكن هذا الصيف، ومع انخفاض منسوب المياه إلى مستويات تاريخية، تغيّر المشهد تماماً.


وقال بَكاس بريفكاني، مدير آثار محافظة دهوك والمشرف على عمليات التنقيب، صرح:


"حتى الآن اكتشفنا نحو 40 مقبرة. لم يكن بوسعنا العمل في الموقع إلا عندما تراجع منسوب المياه إلى أدنى حدوده."


تعود هذه المقابر إلى أكثر من 2300 عام، أي إلى الحقبة الهلنستية أو السلوقية، وقد كُشف عنها في منطقة خانك شمالي العراق.


هذا الاكتشاف يمنح لمحة نادرة عن الماضي، لكنه يسلّط الضوء في الوقت نفسه على ثمن باهظ: فالجفاف الذي يدمّر الزراعة ويعطل إنتاج الكهرباء ويقوّض سبل العيش، يكشف أيضاً عن طبقات من التاريخ المطمور تحت خزانات العراق وأنهاره.


هدية ملتبسة من تغيّر المناخ


كان الفريق الأثري قد رصد في السابق بضع مقابر متفرقة، لكن التراجع الكبير في منسوب المياه هذا العام كشف عن عشرات أخرى. ومن المقرر نقل هذه المقابر إلى متحف دهوك للدراسة والحفظ قبل أن تعود المياه وتغمر الموقع من جديد.


بالنسبة لعلماء الآثار، يشكّل هذا الكشف حدثاً استثنائياً. فالعراق يُوصف غالباً بأنه "مهد الحضارات"، حيث نشأت حضارات السومريين والأكديين والبابليين والآشوريين.


لكن عقوداً من الحروب والنهب والإهمال أعاقت البحوث الأثرية. وهنا يتجلى التناقض: تغيّر المناخ يمنح فرصة للكشف، لكنه يفرض ثمناً باهظاً على الحاضر.


وأوضح بريفكاني: "الجفاف يضرّ بالزراعة والكهرباء، لكن بالنسبة إلينا كعلماء آثار فإنه يتيح لنا العمل والتنقيب."


وليست هذه المرة الأولى التي يُكشف فيها عن آثار بسبب الجفاف. ففي عام 2022، عثر فريق آخر على مدينة عمرها 3400 عام قرب سد الموصل، يُعتقد أنها كانت جزءاً من إمبراطورية ميتاني القديمة. واكتُشفت مواقع مشابهة في أنحاء البلاد مع انحسار المياه.


مياه العراق المتناقصة


لكن الصورة الأكبر قاتمة. فالعراق يعاني منذ سنوات من الجفاف. السلطات تحذّر من أن المخزون المائي انخفض إلى ثمانية في المئة فقط من سعته الكاملة، وهو أدنى مستوى منذ نحو قرن. كما يُوصف العام الحالي بأنه الأشد جفافاً منذ 1933.


الأسباب متعددة: ارتفاع درجات الحرارة العالمية وما يرافقه من موجات حر متكررة تسرّع التبخر وتضغط على الأنهار، إلى جانب مشاريع السدود في تركيا وإيران التي قلّصت بشكل حاد تدفق نهري دجلة والفرات.


في وسط وجنوب البلاد، يشاهد المزارعون حقولهم تتحول إلى أرض يابسة. محطات الطاقة الكهرومائية تعاني هي الأخرى، ما يزيد أزمة الكهرباء التي تحرم العراقيين من التبريد في صيف قائظ.


أما القرى الريفية، فباتت تشهد نزوحاً متزايداً نحو المدن المكتظة أصلاً بالبطالة وسوء الخدمات.


وقال مهندس زراعي من نينوى فضّل عدم ذكر اسمه: "نرى النتائج كل يوم. الحقول صارت صحراء، العائلات تغادر. والآن نُخبر أن حتى ما تبقى من مياه يخبئ عظام أسلافنا."


علم الآثار في مواجهة أزمة المناخ


تكشف الاكتشافات الأخيرة عن ازدواجية الأزمة العراقية. فمن جهة، يفتح الجفاف نوافذ استثنائية على الماضي، موفراً معلومات عن الحقبة الهلنستية حينما سيطر خلفاء الإسكندر الأكبر على مناطق واسعة من الشرق الأوسط. ومن جهة أخرى، يعرّي هشاشة الحاضر.


كما أن العمل الأثري سباق مع الزمن؛ فعودة المياه قد تلحق أضراراً دائمة بالمقابر أو تبتلعها مجدداً.


ومع ضعف التمويل وتراجع الإمكانيات، تجد هيئة الآثار العراقية نفسها عاجزة عن إنقاذ جميع المواقع. ويبقى النهب خطراً قائماً منذ الفوضى التي أعقبت عام 2003.


مع ذلك، يُظهر كشف خانك مرونة قطاع الآثار في العراق، إذ يواصل الباحثون المحليون عملهم غالباً بالتعاون مع فرق دولية، مؤكدين أن العراق ليس مجرد ساحة نزاع حديث، بل تقاطع حضارات تمتد جذوره لآلاف السنين.


تاريخ مكتوب بالماء


سد الموصل ذاته يرمز إلى العلاقة الملتبسة بين العراق ومياهه. فقد بُني في ثمانينيات القرن الماضي ليشكّل أكبر خزان في البلاد، لكنه عانى مشكلات إنشائية وارتبط بصراعات سياسية. عام 2014، سيطر عليه تنظيم "داعش" لفترة وجيزة، ما أثار مخاوف من فيضان كارثي.


واليوم، يقف السد شاهداً مزدوجاً: مصدر حياة للعراق، ومستودعاً لآثاره المغمورة.


ومع انحسار مياهه، يتذكّر العراقيون أن الماء ليس فقط أساس الحياة، بل أيضاً حافظ الذاكرة. فالمقابر المكتشفة تنتمي إلى حقبة تداخلت فيها الثقافات اليونانية والمحلية، قبل قرون من بسط روما نفوذها على بلاد الرافدين.


وهي تكشف عن طقوس الموت والدفن على ضفاف الأنهار نفسها التي ما زالت تغذي المجتمع العراقي.


إلى أين؟


في الوقت الراهن، ينشغل بريفكاني وفريقه بالتنقيب والنقل الدقيق للمقابر. الهدف هو حفظها ودراستها في متحف دهوك، بعيداً عن تقلبات مياه السد. لكن مستقبل مثل هذه الأعمال يظل مرهوناً بقدرة العراق على مواجهة أزمة المناخ المتصاعدة.


فالتقارير الدولية تحذّر باستمرار من أن العراق من أكثر دول العالم هشاشة أمام تغيّر المناخ. ومن دون إصلاحات عاجلة في إدارة المياه، وتعاون إقليمي مع الدول المجاورة، واستثمار في الزراعة المستدامة، قد يستمر هذا المشهد: تاريخ يُكشف، وواقع ينهار.


وبينما ينفض علماء الآثار الغبار عن العظام والأحجار، يدركون أنهم يسابقون الزمن. فكل مقبرة تحمل حكاية، ليست عن حكّام هلنستيين فقط، بل عن العراق ذاته، بلدٌ يطفو ماضيه على السطح، فيما يبقى مستقبله غامضاً.


قال بريفكاني في ختام حديثه: "كل جفاف يكشف لنا شيئاً جديداً، لكن ما نحتاجه حقاً هو ماء للحياة، لا للماضي وحده."

 
 
 

Comments


bottom of page